فصل: تفسير الآيات (113- 114):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل



.تفسير الآيات (113- 114):

{وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114)}
{على شَيْء} أي على شيء يصح ويعتدّ به. وهذه مبالغة عظيمة، لأن المحال والمعدوم يقع عليهما اسم الشيء، فإذا نفي إطلاق اسم الشيء عليه. فقد بولغ في ترك الاعتداد به إلى ما ليس بعده. وهذا كقولهم: أقل من لا شيء {وَهُمْ يَتْلُونَ الكتاب} الواو للحال. والكتاب للجنس أي قالوا ذلك، وحالهم أنهم من أهل العلم والتلاوة للكتب. وحق من حمل التوراة أو الإنجيل أو غيرهما من كتب الله وآمن به أن لا يكفر بالباقي؛ لأن كل واحد من الكتابين مصدّق للثاني شاهد بصحته، وكذلك كتب الله جميعاً متواردة على تصديق بعضها بعضاً {كذلك} أي مثل ذلك الذي سمعت به على ذلك المنهاج {قَالَ} الجهلة {الذين} لا علم عندهم ولا كتاب كعبدة الأصنام والمعطلة ونحوهم قالوا لأهل كل دين: ليسوا على شيء. وهذا توبيخ عظيم لهم حيث نظموا أنفسهم مع علمهم في سلك من لا يعلم. وروى: أن وفد نجران لمّا قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاهم أحبار اليهود فتناظروا حتى ارتفعت أصواتهم، فقالت اليهود: ما أنتم على شيء من الدين، وكفروا بعيسى والإنجيل. وقالت النصارى لهم نحوه، وكفروا بموسى والتوراة. {فالله يَحْكُمُ} بين اليهود والنصارى {يَوْمَ القيامة} بما يقسم لكل فريق منهم من العقاب الذي استحقه.
وعن الحسن: حكم الله بينهم أن يكذبهم ويدخلهم النار {أَن يُذْكَرَ} ثاني مفعولي منع. لأنك تقول: منعته كذا. ومثله {وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ} [الاسراء: 59]، {وَمَا مَنَعَ الناس أَن يُؤْمِنُواْ} [الاسراء: 94] ويجوز أن يحذف حرف الجر مع أن، ولك أن تنصبه مفعولاً له بمعنى كراهة أن يذكر، وهو حكم عام لجنس مساجد الله، وأن مانعها من ذكر الله مفرط في الظلم، والسبب فيه أن النصارى كانوا يطرحون في بيت المقدس الأذى ويمنعون الناس أن يصلوا فيه، وأن الروم غزوا أهله فخربوه وأحرقوا التوراة وقتلوا وسبوا. وقيل: أراد به منع المشركين رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدخل المسجد الحرام عام الحديبية.
فإن قلت: فكيف قيل مساجد الله وإنما وقع المنع والتخريب على مسجد واحد وهو بيت المقدس أو المسجد الحرام؟ قلت: لا بأس أن يجيء الحكم عاماً وإن كان السبب خاصاً، كما تقول لمن آذى صالحاً واحداً: ومن أظلم ممن آذى الصالحين. وكما قال الله عز وجل: {وَيْلٌ لّكُلّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ} [الهمزة: 1] والمنزول فيه الأخنس بن شريق {وسعى فِي خَرَابِهَا} بانقطاع الذكر أو بتخريب البنيان. وينبغي أن يراد ب (من) منع العموم كما أريد بمساجد الله، ولا يراد الذين منعوا بأعيانهم من أولئك النصارى أو المشركين {أولئك} المانعون {مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا} أي ما كان ينبغي لهم أن يدخلوا مساجد الله {إِلاَّ خَائِفِينَ} على حال التهيب وارتعاد الفرائص من المؤمنين أن يبطشوا بهم، فضلاً أن يستولوا عليها ويلوها ويمنعوا المؤمنين منها. والمعنى ما كان الحق والواجب إلا ذلك لولا ظلم الكفرة وعتوّهم. وقيل: ما كان لهم في حكم الله، يعني: أن الله قد حكم وكتب في اللوح أنه ينصر المؤمنين ويقوّيهم حتى لا يدخلوها إلا خائفين. روى: أنه لا يدخل بيت المقدس أحد من النصارى إلا متنكراً مسارقة. وقال قتادة: لا يوجد نصراني في بيت المقدس إلا أنهك ضرباً وأبلغ إليه في العقوبة. وقيل: نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا لا يحجنّ بعد هذاالعام مشرك، ولا يطوفنّ بالبيت عُريان» وقرأ أبو عبد الله: {إلا خيفاً}، وهو مثل صيم. وقد اختلف الفقهاء في دخول الكافر المسجد: فجوّزه أبو حنيفة رحمه الله، ولم يجوزه مالك، وفرق الشافعي بين المسجد الحرام وغيره. وقيل: معناه النهي عن تمكينهم من الدخول والتخلية بينهم وبينه، كقوله: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ الله} [الاحزاب: 53] {خِزْىٌ} قتلٌ وسبيٌ، أو ذلة بضرب الجزية. وقيل: فتح مدائنهم قسطنطينية ورومية وعمورية.

.تفسير الآية رقم (115):

{وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115)}
{وَلِلَّهِ المشرق والمغرب} أي بلاد المشرق والمغرب والأرض كلها لله هو مالكها ومتوليها {فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ} ففي أي مكان فعلتم التولية، يعني تولية وجوهكم شطر القبلة بدليل قوله تعالى: {فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام وحيثما كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ}. {فَثَمَّ وَجْهُ الله} أي جهته التي أمر بها ورضيها. والمعنى أنكم إذا منعتم أن تصلوا في المسجد الحرام أو في بيت المقدس، فقد جعلت لكم الأرض مسجداً فصلوا في أي بقعة شئتم من بقاعها، وافعلوا التولية فيها فإن التولية ممكنة في كل مكان لا يختص إمكانها في مسجد دون مسجد ولا في مكان دون مكان {إِنَّ الله واسع} الرحمة يريد التوسعة على عباده والتيسير عليهم {عَلِيمٌ} بمصالحهم.
وعن ابن عمر: نزلت في صلاة المسافر على الراحلة أينما توجهت.
وعن عطاء: عميت القبلة على قوم فصلوا إلى أنحاء مختلفة، فلما أصبحوا تبينوا خطأهم فعذروا. وقيل: معناه (فأينما تولوا) للدعاء والذكر ولم يرد الصلاة.
وقرأ الحسن: فأينما تَولوا، بفتح التاء من التولي يريد: فأينما توجهوا القبلة.

.تفسير الآية رقم (116):

{وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116)}
{وَقَالُواْ} وقرئ بغير واو، يريد الذين قالوا المسيح ابن الله وعزير ابن الله والملائكة بنات الله. {سبحانه} تنزيه له عن ذلك وتبعيد {بَل لَّهُ مَا فِي السماوات والارض} هو خالقه ومالكه، ومن جملته الملائكة وعزير والمسيح {كُلٌّ لَّهُ قانتون} منقادون، لا يمتنع شيء منه على تكوينه وتقديره ومشيئته، ومن كان بهذه الصفة لم يجانس، ومن حق الولد أن يكون من جنس الوالد. والتنوين في {كُلٌّ} عوض من المضاف إليه، أي كل ما في السموات والأرض. ويجوز أن يراد كلّ من جعلوه لله ولداً له قانتون مطيعون عابدون مقرون بالربوبية منكرون لما أضافوا إليهم.
فإن قلت: كيف جاء بما التي لغير أولي العلم مع قوله قانتون؟ قلت: هو كقوله: سبحان ما سخركنَّ لنا. وكأنه جاء ب (ما) دون (من) تحقيراً لهم وتصغيراً لشأنهم، كقوله: {وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجنة نَسَباً} [الصافات: 158].

.تفسير الآية رقم (117):

{بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117)}
يقال بدع الشيء فهو بديع، كقولك: بزع الرجل فهو بزيع. و{بَدِيعُ السماوات} من إضافة الصفة المشبهة إلى فاعلها أي بديع سمواته وأرضه. وقيل: البديع بمعنى المبدع، كما أنّ السميع في قول عمرو:
أمِنْ رَيْحَانَةَ الدَّاعِي السَّمِيعُ

بمعنى المسمع وفيه نظر {كُنْ فَيَكُونُ} من كان التامّة، أي أحدث فيحدث. وهذا مجاز من الكلام وتمثيل ولا قول ثم، كما لا قول في قوله:
إذْ قَالَتِ الأَنْسَاعُ لِلْبَطْنِ الحق

وإنما المعنى أنّ ما قضاه من الأمور وأراد كونه، فأنما يتكوّن ويدخل تحت الوجود من غير امتناع ولا توقف، كما أنّ المأمور المطيع الذي يؤمر فيمتثل لا يتوقف ولا يمتنع ولا يكون منه الإباء. أكد بهذا استبعاد الولادة لأنّ من كان بهذه الصفة من القدرة كانت حاله مباينة لأحوال الأجسام في توالدها. وقرئ: {بديعُ السموات} مجروراً على أنه بدل من الضمير في له.
وقرأ المنصور بالنصب على المدح.

.تفسير الآية رقم (118):

{وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آَيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118)}
{وَقَالَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ} وقال الجهلة من المشركين.
وقيل من أهل الكتاب، ونفى عنهم العلم لأنهم لم يعملوا به. {لَوْلاَ يُكَلّمُنَا الله} هلا يكلمنا كما يكلم الملائكة وكلّم موسى؟ استكباراً منهم وعتوّاً {أَوْ تَأْتِينَآءَايَةٌ} جحوداً لأن يكون ما أتاهم من آيات الله آيات، واستهانة بها {تشابهت قُلُوبُهُمْ} أي قلوب هؤلاء ومن قبلهم في العمى، كقوله: {أَتَوَاصَوْاْ بِهِ} [الذاريات: 52]. {قَدْ بَيَّنَّا الآيات لِقَوْمٍ} ينصفون فيوقنون أنها آيات يجب الاعتراف بها والإذعان لها والاكتفاء بها عن غيرها.

.تفسير الآية رقم (119):

{إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (119)}
{إِنَّا أرسلناك} لأن تبشر وتنذر لا لتجبر على الإيمان، وهذه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتسرية عنه، لأنه كان يغتم ويضيق صدره لإصرارهم وتصميمهم على الكفر. ولا نسألك {عَنْ أصحاب الجحيم} ما لهم لم يؤمنوا بعد أن بلغت وبلغت جهدك في دعوتهم، كقوله: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ وَعَلَيْنَا الحساب} [الرعد: 40] وقرئ: {ولا تَسْأَلْ} على النهي. روي أنه قال: «ليت شعري ما فعل أبواي». فنهى عن السؤال عن أحوال الكفرة والاهتمام بأعداء الله. وقيل: معناه تعظيم ما وقع فيه الكفار من العذاب كما تقول: كيف فلان؟ سائلاً عن الواقع في بلية، فيقال لك: لا تسأل عنه. ووجه التعظيم أن المستخبر يجزع أن يجري على لسانه ما هو فيه لفظاعته، فلا تسأله ولا تكلفه ما يضجره، وأنت يا مستخبر لا تقدر على استماع خبره لإيحاشه السامع وإضجاره، فلا تسأل، وتعضد القراءة الأولى قراءة عبد الله: {ولن تسأَل}، وقراءة أبيّ: {وما تسأل}.

.تفسير الآية رقم (120):

{وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (120)}
كأنهم قالوا: لن نرضى عنك وإن أبلغت في طلب رضانا حتى تتبع ملتنا، إقناطاً منهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن دخولهم في الإسلام، فحكى الله عزّ وجلّ كلامهم، ولذلك قال: {قُلْ إِنَّ هُدَى الله هُوَ الهدى} على طريقة إجابتهم عن قولهم، يعني أن هدى الله الذي هو الإسلام وهو الهدى بالحق والذي يصح أن يسمى هدى، وهو الهدى كله ليس وراءه هدى، وما تدعون إلى اتباعه ما هو بهدى إنما هو هوى. ألا ترى إلى قوله: {وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَاءهُم} أي أقوالهم التي هي أهواء وبدع {بَعْدَ الذي جَاءكَ مِنَ العلم} أي من الدين المعلوم صحته بالبراهين الصحيحة.

.تفسير الآيات (121- 123):

{الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (121) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (122) وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (123)}
{الذين ءاتيناهم الكتاب} هم مؤمنون أهل الكتاب {يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ} لا يحرّفونه ولا يغيرون ما فيه من نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم {أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ} بكتابهم دون المحرفين {وَمن يَكْفُرْ بِهِ} من المحرفين {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الخاسرون} حيث اشتروا الضلالة بالهدى.

.تفسير الآيات (124- 125):

{وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124) وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125)}
{ابتلى إبراهيم رَبُّهُ بكلمات} اختبره بأوامر ونواه. واختبار الله عبده مجاز عن تمكينه عن اختيار أحد الأمرين: ما يريد الله، وما يشتهيه العبد، كأنه يمتحنه ما يكون منه حتى يجازيه على حسب ذلك.
وقرأ أبو حنيفة رضي الله عنه وهي قراءة ابن عباس رضي الله عنه: {إبراهيمُ ربَّه} رفع إبراهيم ونصب ربه. والمعنى: أنه دعاه بكلمات من الدعاء فعل المختبر هل يجيبه إليهنّ أم لا؟ فإن قلت: الفاعل في القراءة المشهورة يلي الفعل في التقدير، فتعليق الضمير به إضمار قبل الذكر.
قلت: الإضمار قبل الذكر أن يقال: ابتلى ربه إبراهيم. فأما ابتلى إبراهيم ربه أو ابتلى ربه إبراهيم، فليس واحداً منهما بإضمار قبل الذكر. أما الأوّل فقد ذكر فيه صاحب الضمير قبل الضمير ذكراً ظاهراً. وأما الثاني فإبراهيم فيه مقدّم في المعنى، وليس كذلك: ابتلى ربه إبراهيم، فإن الضمير فيه قد تقدم لفظاً ومعنى فلا سبيل إلى صحته. والمستكن {فَأَتَمَّهُنَّ} في إحدى القراءتين لإبراهيم بمعنى: فقام بهنّ حق القيام وأدّاهنّ أحسن التأدية من غير تفريط وتوان. ونحو: {وإبراهيم الذى وفى} وفى الأخرى لله تعالى بمعنى فأعطاه ما طلبه لم ينقص منه شيئاً. ويعضده ما روي عن مقاتل أنه فسر الكلمات بما سأل إبراهيم ربه في قوله: {رَبِّ اجعل هذا بَلَدًا آمِنًا} [البقرة: 126]، {واجعلنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ}، {وابعث فِيهِمْ رَسُولاً مّنْهُمْ}. {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا} فإن قلت: ما العامل في إذ؟ قلت: إما مضمر نحو: واذكر إذ ابتلى أو إذ ابتلاه كان كيت وكيت، وإما {قَالَ إِنّى جاعلك}.
فإن قلت: فما موقع قال؟ قلت: هو على الأوّل استئناف، كأنه قيل: فماذا قال له ربه حين أتم الكلمات؟ فقيل: قال إني جاعلك للناس إماماً. وعلى الثاني جملة معطوفة على ما قبلها. ويجوز أن يكون بياناً لقوله: (ابتلى) وتفسيراً له فيراد بالكلمات ما ذكره من الإمامة وتطهير البيت ورفع قواعده. والإسلام قبل ذلك في قوله: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ} وقيل في الكلمات: هنّ خمس في الرأس: الفرق، وقص الشارب، والسواك، والمضمضة والاستنشاق. وخمس في البدن: الختان، والاستحداد، والاستنجاء، وتقليم الأظفار، ونتف الإبط. وقيل: ابتلاه من شرائع الإسلام بثلاثين سهماً: عشر في براءة {التائبون العابدون} [التوبة: 122]، وعشر في الأحزاب {إِنَّ المسلمين والمسلمات} [الاحزاب: 35]، وعشر في المؤمنون، و(سأل سائل) إلى قوله: {وَالَّذِينَ هُمْ على صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [المعارج: 34]. وقيل: هي مناسك الحج، كالطواف والسعي والرمي والإحرام والتعريف وغيرهنّ. وقيل: ابتلاه بالكوكب والقمر والشمس والختان وذبح ابنه والنار والهجرة. والإمام اسم من يؤتم به على زنة الإله، كالإزار لما يؤتزر به، أي يأتمون بك في دينهم {وَمِن ذُرّيَتِى} عطف على الكاف، كأنه قال: وجاعل بعض ذريتي، كما يقال لك: سأكرمك، فتقول: وزيداً {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين} وقرئ: {الظالمون}، أي من كان ظالماً من ذرّيتك.
لا يناله استخلافي وعهدي إليه بالإمامة، وإنما ينال من كان عادلاً بريئاً من الظلم وقالوا: في هذا دليل على أن الفاسق لا يصلح للإمامة. وكيف يصلح لها من لا يجوز حكمه وشهادته. ولا تجب طاعته؛ ولا يقبل خبره، ولا يقدّم للصلاة. وكان أبو حنيفة رحمه الله يفتي سراً بوجوب نصرة زيد بن عليّ رضوان الله عليهما، وحمل المال إليه، والخروج معه على اللص المتغلب المتسمي بالإمام والخليفة، كالدوانيقي وأشباهه. وقالت له امرأة: أشرت على ابني بالخروج مع إبراهيم ومحمد ابني عبد الله بن الحسن حتى قتل. فقال: ليتني مكان ابنك. وكان يقول في المنصور وأشياعه: لو أرادوا بناء مسجد وأرادوني على عدّ آجره لما فعلت.
وعن ابن عيينة: لا يكون الظالم إماماً قط. وكيف يجوز نصب الظالم للإمامة، والإمام إنما هو لكف الظلمة. فإذا نصب من كان ظالماً في نفسه فقد جاء المثل السائر: من استرعى الذئب ظلم. و{البيت} اسم غالب للكعبة، كالنجم للثريا {مَثَابَةً لّلنَّاسِ} مباءة ومرجعاً للحجاج والعمار، يتفرقون عنه ثم يثوبون إليه أي يثوب إليه أعيان الذين يزورونه أو أمثالهم {وَأَمْناً} موضع أمن، كقوله: {حَرَماً ءامِناً وَيُتَخَطَّفُ الناس مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت: 67] ولأن الجاني يأوي إليه فلا يتعرض له حتى يخرج. وقرئ: {مثابات}، لأنه مثابة لكل من الناس لا يختص به واحد منهم {سَوَاء العاكف فِيهِ والباد} {واتخذوا} على إرادة القول، أي وقلنا: اتخذوا منه موضع صلاة تصلون فيه. وهو على وجه الاختيار والاستحباب دون الوجوب.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «أنه أخذ بيد عمر فقال: هذا مقام إبراهيم، فقال عمر: أفلا نتخذه مصلى يريد أفلا نؤثره لفضله بالصلاة فيه تبركاً به وتيمناً بموطئ قدم إبراهيم فقال: لم أومر بذلك، فلم تغب الشمس حتى نزلت» وعن جابر بن عبد الله: «أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم استلم الحجر ورمل ثلاثة أشواط ومشى أربعة، حتى إذا فرغ، عمد إلى مقام إبراهيم، فصلى خلفه ركعتين، وقرأ: {واتخذوا مِن مَّقَامِ إبراهيم مُصَلًّى}». وقيل: مصلى مدعى. ومقام إبراهيم: الحجر الذي فيه أثر قدميه، والموضع الذي كان فيه الحجر حين وضع عليه قدميه، وهو الموضع الذي يسمى مقام إبراهيم.
وعن عمر رضي الله عنه أنه سأل المطلب بن أبي وداعة: هل تدري أين كان موضعه الأوّل؟ قال: نعم، فأراه موضعه اليوم.
وعن عطاء {مَّقَامِ إبراهيم}: عرفة والمزدلفة والجمار، لأنه قام في هذه المواضع ودعا فيها.
وعن النخعي: الحرم كله مقام إبراهيم. وقرئ {واتخذوا} بلفظ الماضي عطفا على {جعلنا} أي واتخذ الناس من مكان إبراهيم الذي وسم به لاهتمامه به وإسكان ذرّيته عنده قبلةً يصلون إليها {عَهِدْنَا} أمرناهما {أَن طَهّرَا بَيْتِىَ} بأن طهرا، أو أي طهرا. والمعنى طهراه من الأوثان والأنجاس وطواف الجنب والحائض والخبائث كلها، أو أخلصاه لهؤلاء لا يغشه غيرهم {والعاكفين} المجاورين الذين عكفوا عنده، أي أقاموا لا يبرحون، أو المعتكفين. ويجوز أن يريد بالعاكفين الواقفين يعني القائمين في الصلاة، كما قال: {لِلطَّائِفِينَ والقائمين والركع السجود} [الحج: 26]، والمعنى: للطائفين والمصلين، لأن القيام والركوع والسجود هيآت المصلي.